1 إجابة واحدة

0 معجب 0 شخص غير معجب
بواسطة (450ألف نقاط)
 
أفضل إجابة

سيرة الإمام أحمد بن حنبل والسجين

  • قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): كان قد اجتمع على الخليفة المأمون واستحوذ عليه جماعةٌ من المعتزلة، فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل، وزيَّنوا له القول بخلق القرآن، ونفي الصفات عن الله عز وجل.

  • قال الحافظ البيهقي: ولم يكن في الخلفاء قبله، لا من بني أمية ولا من بني العباس، خليفة إلا على منهج السلف، حتى وَلِيَ هو الخلافة، فاجتمع به هؤلاء، فحملوه على ذلك، قالوا: واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو بلاد الروم، فعَنَّ له أن يكتب إلى نائب بغداد إسحاقَ بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخَلْق القرآن، واتفق ذلك في آخر عمره، قبل موته بشهور من سنة ثماني عشرة ومائتين.

  • فلما وصل الكتاب، كما ذكرنا، استدعى جماعةً من أئمة الحديث، فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا، فتهددهم بالضرب، وقطع الأرزاق، فأجاب أكثرُهم مكرَهين، واستمر على الامتناع في ذلك الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح الجنديسابوري، فحُملا على بعير، وسيَّرهما إلى الخليفة عن أمره بذلك، وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد، فلما كانوا ببلاد الرحبة، جاء رجل من الأعراب من عبَّادهم يقال له: جابر بن عامر، فسلَّم على الإمام أحمد، وقال له: يا هذا، إنك وافد الناس، فلا تكن مشؤومًا عليهم، وإنك رأس الناس اليوم؛ فإياك أن تجيب فيجيبوا، وإن كنت تحب الله، فاصبِرْ على ما أنت فيه؛ فإن ما بينك وبين الجنة إلا أن تُقتَل، وإنك إن لم تُقتَل تَمُتْ، وإن عِشْتَ عشت حميدًا، قال الإمام أحمد: فكان ذلك ما قوَّى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك، فلما اقتربوا من جيش المأمون ونزلوا دونه بمرحلة، جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرَف ثيابه، وهو يقول: يعِزُّ عليَّ يا أبا عبدالله أن المأمون قد سل سيفًا لم يسُلَّه قبل ذلك، وبسط نطعًا لم يبسطه قبل ذلك، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن، ليقتلنك بذلك السيف، قال: فجثا الإمام أحمد على ركبتيه، ورمق بطرفه إلى السماء، ثم قال: سيدي، غرَّ حِلمُك هذا الفاجر حتى يتجبر على أوليائك بالضرب والقتل، اللهم فإن يكُنِ القرآن كلامَك غيرَ مخلوق، فاكفِنا مؤنته، قال: فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل.

  • قال أحمد: ففرحت بذلك، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد وَلِيَ الخلافة، وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد، وأن الأمر شديد، فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى، ونالني معهم أذًى كثير، وكان في رجليه القيود، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق، وصلى عليه أحمد، فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها وهو مريض، وذلك في رمضان، فأُودِع السجن نحوًا من ثمانية وعشرين شهرًا، وقيل: نيفًا وثلاثين شهرًا، ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى وبه الثقة، وقد كان الإمام أحمد هو الذي يصلي بأهل السجن وعليه قيود في رجليه، ولما أحضره المعتصم من السجن زِيد في قيوده، قال أحمد: فلم أستطع أن أمشي بها، فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاؤوني بدابة، فحملت عليها، فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود، وليس معي أحد يمسكني، فسلم الله حتى جئنا دار الخلافة، فأدخلت في بيت، وأغلق عليَّ، وليس عندي سراج، فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه، ثم قمت أصلي، ولا أعرف القبلة، فلما أصبحت إذا أنا على القبلة، ولله الحمد، قال: ثم دُعيت فأدخلت على المعتصم، فلما نظر إليَّ، وعنده ابن أبي دؤاد، قال: أليس قد زعمتم أنه حدث السن، وهذا شيخ مكتهل؟ فلما دنوت منه وسلمت قال لي: ادنه، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم قال: اجلس، فجلست وقد أثقلني الحديد، فمكثت ساعةً، ثم قلت: يا أمير المؤمنين، إلامَ دعا إليه ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، قلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، قال: ثم ذكرت له حديث ابن عباس في وفد عبدالقيس، ثم قلت: فهذا الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه؛ وذلك لأني لم أتفقه كلامه، ثم قال المعتصم: لولا أنك كنت في يد من كان قبلي لم أتعرض إليك، ثم قال: يا عبدالرحمن، ألم آمرك أن ترفع المحنة؟ قال أحمد: فقلت: الله أكبر، هذا فرج للمسلمين، ثم قال: ناظروه، يا عبدالرحمن، كلِّمه، فقال لي عبدالرحمن: ما تقول في القرآن؟ فلم أجبه، فقال المعتصم: أجبه، فقلت: ما تقول في العلم؟ فسكت، فقلت: القرآن من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله، فسكت، فقالوا فيما بينهم: يا أمير المؤمنين، كفَّرك وكفَّرنا، فلم يلتفت إلى ذلك، فقال عبدالرحمن: كان الله ولا قرآن؟ فقلت: كان الله ولا علم؟ فسكت، فجعلوا يتكلمون من ها هنا وها هنا، فقلت: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنَّة رسول الله حتى أقول به، فقال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا؟ فقلت: وهل يقوم الإسلام إلا بهما؟

  • وجرت بينهما مناظرات طويلة، واحتجوا عليه بقوله: ﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ﴾ [الأنبياء: 2]، وعنه في ذلك أجوبة بحدث إنزاله، أو ذكر غير القرآن محدث، كما تقدم، ورشح هذا بقوله: ﴿ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ﴾ [ص: 1] يعني به القرآن، بخلاف الذِّكر؛ فإنه غير القرآن، وبقوله: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الرعد: 16]، وأجاب بما حاصله أنه عام مخصوص بقوله: ﴿ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ﴾ [الأحقاف: 25]، فقال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضالٌّ مضلٌّ مبتدع، وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسَلْهم، فقال لهم: ما تقولون فيه؟ فأجابوا بمثل ما قال ابن أبي دؤاد، ثم أحضروه في اليوم الثاني فناظروه أيضًا، ثم في اليوم الثالث فناظروه أيضًا، وفي ذلك كله يعلو صوته عليهم، وتغلِب حجتُه حُجَجهم، قال: فإذا سكتوا فتح الكلام عليهم ابن أبي دؤاد، وكان من أجهل الناس بالعلم والكلام، وقد تنوعت بهم المسائل في المجادلة، ولا علم لهم بالنقل، فجعلوا ينكرون الآثار، ويردون الاحتجاج بها.

  • وقال أحمد: سمعتُ منهم مقالات لم أكن أظن أن أحدًا يقولها، وقد تكلم معي برغوث بكلام طويل ذكر فيه الجسم وغيره بما لا فائدة فيه، فقلت: لا أدري ما تقول، إلا أني أعلم أن الله أحد صمد، ليس كمثله شيء، فسكت عني.

  • وقد أوردت لهم حديث الرؤية في الدار الآخرة، فحاولوا أن يُضعفوا إسناده، ويلفقوا عن بعض المحدِّثين كلامًا يتسلقون به إلى الطعن فيه، وهيهات ﴿ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [سبأ: 52]، وفي غبون ذلك كله يتلطف به الخليفة، ويقول: يا أحمد، أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي، وممن يطأ بساطي، فأقول: يا أمير المؤمنين، يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجيبهم إليها، واحتج أحمد عليهم حين أنكروا الاحتجاج بالآثار بقوله تعالى حكايةً عن إبراهيم: ﴿ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 42]، وبقوله:﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164]، وبقوله: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ﴾ [طه: 14]، وبقوله: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، وبقوله: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [النحل: 40] إلى غير ذلك من الآيات، فلما لم يقم لهم معه حجة، عدَلوا إلى استعمال جاه الخليفة في ذلك، فقالوا: يا أمير المؤمنين، هذا كافر ضال مضل، وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين، ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلِب خليفتين، فعند ذلك حمي واشتد غضبه، وكان ألينهم عريكةً، وهو يظن أنهم على شيء، قال أحمد: فعند ذلك قال لي: لعنك الله، طمعتُ فيك أن تجيبني فلم تجبني، ثم قال: خذوه واخلعوه واسحبوه.

  • قال أحمد: فأُخذت وسُحبت وخُلعت، وجيء بالعقابين والسياط، وأنا أنظر، وكان معي شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مصرور في ثوبي، فجردوني منه، وصرت بين العقابين، فقلت: يا أمير المؤمنين، اللهَ اللهَ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحلُّ دمُ امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث))، وتلوت الحديث، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم))، فبمَ تستحل دمي؟! ولم آتِ شيئًا من هذا، يا أمير المؤمنين، اذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك، فكأنه أمسك، ثم لم يزالوا يقولون له: يا أمير المؤمنين، إنه ضال مضل كافر، فأمر بي فأقمت بين العقابين، وجيء بكرسي فأقمت عليه، وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين، فلم أفهم، فتخلَّعت يداي، وجيء بالضرَّابين ومعهم السياط، فجعل أحدهم يضربني سوطين، ويقول له – يعني المعتصم -: شُدَّ، قطع الله يدك! ويجيء الآخر فيضربني سوطين، ثم الآخر كذلك، فضربوني أسواطًا، فأغمي علي، وذهب عقلي مرارًا، فإذا سكن الضرب يعود إليَّ عقلي، وقام المعتصم إليَّ يدعوني إلى قولهم، فلم أجبه، وجعلوا يقولون: ويحك، الخليفة على رأسك، فلم أقبل، فأعادوا الضرب، ثم عاد إليَّ فلم أجبه، فأعادوا الضرب، ثم جاء إليَّ الثالثة، فدعاني فلم أعقِلْ ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب، فذهب عقلي، فلم أحسَّ بالضرب، وأرعبه ذلك من أمري، وأمَر بي فأُطلقت، ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت وقد أطلقت الأقياد من رِجلي، وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين، ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، وكان جملة ما ضرب نيفًا وثلاثين سوطًا، وقيل: ثمانين سوطًا، لكن كان ضربًا مبرحًا شديدًا جدًّا.

  • ولما حُمل من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم، وهو صائم، أتوه بسويق وماء؛ ليفطر من الضعف، فامتنع من ذلك، وأتم صومه، وحين حضرت صلاة الظهر صلى معهم، فقال له ابن سماعة القاضي: صليت في دمك؟ فقال له أحمد: قد صلى عمرُ وجرحه يثعب دمًا، فسكت؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ 10 صـ 349: 346).

ندم الخليفة المعتصم على ضرب أحمدَ:

  • لما رجع الإمام أحمد بن حنبل إلى منزله، جاءه الطبيب فقطع لحمًا ميتًا من جسده، وجعل يداويه، والنائب يبعث كثيرًا في كل وقت يسأل عنه؛ وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد ندمًا كثيرًا، وجعل يسأل النائب عنه، والنائب يستعلم خبره، فلما عُوفي، فرح المعتصم والمسلمون بذلك، ولما شفاه الله بالعافية، بقي مدةً وإبهاماه يؤذيهما البرد، وجعل كلَّ مَن سعى في أمره في حِلٍّ إلا أهل البدعة، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [النور: 22]، ويقول: ماذا ينفعك أن يعذَّب أخوك المسلم في سبيلك؟ وقد قال الله تعالى: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 40]، وينادى يوم القيامة: “ليَقُمْ مَن أجره على الله”، فلا يقوم إلا مَن عفا؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ 10 صـ 349)

ثبات أحمد على الحق وانتهاء المحنة:

  • خرج أحمدُ من سجنه إلى منزله وهو ثابت على الحق، ولزم منزله، وامتنع من التحديث، وذلك بأمر الخليفة المعتصم، وأحمد صابر محتسب، ولم يزل كذلك مدة خلافة المعتصم، وكذلك في أيام ابنه محمد الواثق، فلما وَلِيَ المتوكل على الله جعفر بن المعتصم استبشر الناس بولايته؛ فإنه كان محبًّا للسنَّة وأهلها، ورفع المحنة عن الناس، وكتب إلى الآفاق ألا يتكلم أحد في القول بخلق القرآن، ثم كتب إلى نائبه ببغداد وهو إسحاق بن إبراهيم أن يبعث بأحمد بن حنبل إليه، فاستدعى إسحاق بالإمام أحمد إليه، فأكرمه إسحاق وعظمه؛ لما يعلم من إعظام الخليفة له وإجلاله إياه، وسأله فيما بينه وبينه عن القرآن، فقال له أحمد: سؤال تعنت أو استرشاد؟ فقال: بل سؤال استرشاد، فقال: هو كلام الله منزل غير مخلوق، فسكن إلى قوله في ذلك، ثم جهزه إلى الخليفة بسُرَّ مَن رأى؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ 10 صـ 351).

اهتمام الخليفة المتوكل بعلاج أحمد:

  • لما طالت علة أبي عبدالله، كان المتوكل يبعث بابن ماسويه المتطبب، فيصف له الأدوية، فلا يتعالج، ويدخل ابن ماسويه، فقال: يا أمير المؤمنين، ليست بأحمد علة، إنما هو من قلة الطعام والصيام والعبادة، فسكت المتوكل؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 11 صـ 271).

المصدر: موقع اقرأ

اسئلة متعلقة

...